مقطعين لجبور الدويهى
جبور الدويهى : كاتب لبنانى للأسف لا توجد عنهُ معلومات كافية على الأنترنت , أفضل المُتاح عنهُ موجود هُنا
هُنا ذهبت ناديا
لا اعرف كيف وصلنا إلى الكتب. لم يعد فى امكاننا ان نلتقى ، ان نجلس جنباً الى جنب الا و نشعر بقلق غير مفهوم ، نخشى دائماً ان يحل الصمت فيما بيننا . لا اعرف فى الواقع من منا نقل ذعره الى الأخر ، ناديا تقول انى نقلت اليها العدوى . لست متأكداً . حاولنا تطارح الغرام فلم ننجح ، لا بل انا الذى لم أنجح . فقلنا ان ما بيننا أقوى من ذلك . ولا يحتاج إليه . فاكتشفنا المطالعة . كنا قد جربنا السينما أولاً ، كنا فى حاجة الى حضور ثالث بيننا ، رحنا ندور معاً على الصالات ، استنفدنا الأفلام ولم يبق لنشاهده سوى ما يعرض من مغامرات أمريكية سهلة ننساها فور مغادرتنا الصالة . و ذات يوم كنا جالسين فى المقهى الذى اعتدنا ارتياده كل يوم ، فسحبت ناديا من حقيبتها كتاباً صعيراً و قرأت لى منه مقطعاً تحبه . لم اعد اذكر ما الذى سحرنى ، ما كانت تقرأه و هو عن الحب و الموت ، ام كونها هى تقرأه لى . اعتبرت انها تقرأه لى كأنه مكتوب لى و صرت أجد فيه ما ليس فيه. جئت فى اليوم التالى بحكاية أحبها و قرأتها عليها / ثم رحنا نتوسع حتى وصلنا الى ((البحث عن الزمن الضائع)) أقترحت عليها فى البداية أن نشترى نسختين و نطالعهما بالتزامن كل من جهته ، على ان يتمهل المسرع فى القراءة ، يعنى انا فلينتظر المتأخر لنتقدم معاً فى عالم بروست .
قاطعته مرغرت لتسأله لماذا اختار بروست اجاب انه سمع سليمان عطيه ذات يوم يقول عنه بلهجة يائسة و حازمة – كأنها قاعدة رياضية معروفة فى اوساط العارفين ولا يمكن و للأسف إنكارها – ان لا احد يدخله و يخرج منه معافى.
- و قد صح القول فينا انا و ناديا ، اليس كذلك ؟
ثم أكمل :
هى كان لها رأى أخر ، أن ابدأ انا وكلما انهى جزء اعطيها اياه فتقرأه من بعدى و هى مطمئنة اننى استكشف قبلها الشخصيات و المعانى ، انى مررت قبلها من هنا . ((اليس هنا دور الرجل؟)) سألتنى وكأن الجواب أيضاً لا جدال فيه.
بدأ يقرأ الكتاب من اوله . اكتشف قكرة ان يقرأ الأنسان كتاباً سيقرأه من بعد شخصاً يحبه . فصار كلما التقى شخصية غريبة او حالة من احوال الحب ابتسم فى سره لما ستقوله ناديا عنها . فكان يتساءل ما اذا كان وصف الكاتب لمرض الحب (( الغير قابل للجراحة )) الذى عانى منه ((سوان)) تجاه اوديت وكيف اختلط هذا الحب بجميع عاداته اليومية و افكاره و افعاله و صحته و نومه و حياته و مايتمناه بعد الموت ، تساءل اذا كانت ستفكر بحبهما و تستسلم له بقناعة اكبر لانه موصوف فى الكتاب أى انهما ليسا وحدهما فى حالة ((الجنون)) هذه. كما قال فى نفسه انها ستتذكر امها متى وصلت الى حديث البطل عن القبلة التى كانت تطبعها أمه كل ليلة على جبينه قبل رقاده ، قبلة ليس فيها بقية ولو بسيطة من رغبة فى غيره ، قبلة كاملة له وحده .....
اعطاها الجزء الاول ولما تقدمت فيه قليلاً سارعت فى الاتصال به و طلبت منه ان يضع علامة عند الصفحات التى يحبها او ان يكتب ما يشاء بين السطور ؟ ((لا اتحمل قراءة هذا الكتاب بمفردى)) قالت له ، فأعطنى أكبر قدر من الاشارات لكى اشعر دائماً بوجودك الى جانبى و انا تائهة فيه ... كنت اتمنى لو نجلس فى مقهى يروح الناس و يجيئون فيه امامنا ، فنفتح كتابا واحدا و نقرأ فيه معا و نقلب الصفحات معاً.....))
قصدت شاطىء البحر قرب ((كازينو لبنان)) فى يوم حر شديد لنتابع الجزء الرابع (( سادوم و عامور )) ، لكنها لم تصل . كان قد سبقها الى الجزء الخامس (( السجينة))
-فى اللحظة التى رن فيها الهاتف ليخبرونى انها ادخلت الى مستشفى باستور بعد ان صدمتها شاحنة رمتها مع سيارتها الصغيرة الى الجهة الثانية من الاوتوستراد وان حالتها خطرة وهم اتصلوا بى لانهم وجدوا رقم هاتفى فى اوراقها الخاصة ، اكتشفت ساعة فتحت مفكرتها في ما بعد انها لم ترتب الاسماء فيها بحسب التسلسل الأبجدى بل وفق قائمة كانت أمها فى رأسها و انا من بعدها مباشرة ، لم استطع التغلب على أمها ، ادارة المستشفى اتصلت بالرقم الأول فلم تجد احداً فاتصلوا بالشخص التالى فوقعوا على فى لحظة كنت غارقاً فيها بهذيان مرسيل حول ألبرتين ))
عندما وصل الى هذه النقطة من حكايتهما فتح رضا الكتاب الذى كان يمسك به و يلوح به طوال الجلسة .
كانت ردة فعلى الاولى ، بدل ان اقود سيارتى و اتوجه الى المستشفى ، انى استعدت قراءة المقطع الأخير من جديد : (( وأدركت الاستحالة التى يصطدم بها الحب . نتصور أن غرضه كائن قد يكون راقدا ازاءنا ، مسجونا فى جسمه . انه و للاسف توسع هذا الكائن الى جميع النقاط التى يحتلها فى المكان و الزمان . و طالما اننا لا نمتلك اتصاله مع هذا المكان وهذه الساعة فاننا لا نمتلكه . بيد اننا عاجزون من الوصول الى هذه النقاط جميعها . لو قدر لنا تحديدها لتمكنا من التوسع صوبها لكننا نتلمسها دون ان تقع عليها . من هنا يولد الشك و الغيرة و الشعور بالاضطهاد . نضيع وقتاً ثمينا فى دروب عبثية ونمر الى جانب الحقيقة دون ان ندرى بها)) ... ثم طويت الكتاب و دونّت فى هامشه الضيق : ((هنا ذهبت ناديا)) و أغلقته
هُنا ذهبت ناديا
لا اعرف كيف وصلنا إلى الكتب. لم يعد فى امكاننا ان نلتقى ، ان نجلس جنباً الى جنب الا و نشعر بقلق غير مفهوم ، نخشى دائماً ان يحل الصمت فيما بيننا . لا اعرف فى الواقع من منا نقل ذعره الى الأخر ، ناديا تقول انى نقلت اليها العدوى . لست متأكداً . حاولنا تطارح الغرام فلم ننجح ، لا بل انا الذى لم أنجح . فقلنا ان ما بيننا أقوى من ذلك . ولا يحتاج إليه . فاكتشفنا المطالعة . كنا قد جربنا السينما أولاً ، كنا فى حاجة الى حضور ثالث بيننا ، رحنا ندور معاً على الصالات ، استنفدنا الأفلام ولم يبق لنشاهده سوى ما يعرض من مغامرات أمريكية سهلة ننساها فور مغادرتنا الصالة . و ذات يوم كنا جالسين فى المقهى الذى اعتدنا ارتياده كل يوم ، فسحبت ناديا من حقيبتها كتاباً صعيراً و قرأت لى منه مقطعاً تحبه . لم اعد اذكر ما الذى سحرنى ، ما كانت تقرأه و هو عن الحب و الموت ، ام كونها هى تقرأه لى . اعتبرت انها تقرأه لى كأنه مكتوب لى و صرت أجد فيه ما ليس فيه. جئت فى اليوم التالى بحكاية أحبها و قرأتها عليها / ثم رحنا نتوسع حتى وصلنا الى ((البحث عن الزمن الضائع)) أقترحت عليها فى البداية أن نشترى نسختين و نطالعهما بالتزامن كل من جهته ، على ان يتمهل المسرع فى القراءة ، يعنى انا فلينتظر المتأخر لنتقدم معاً فى عالم بروست .
قاطعته مرغرت لتسأله لماذا اختار بروست اجاب انه سمع سليمان عطيه ذات يوم يقول عنه بلهجة يائسة و حازمة – كأنها قاعدة رياضية معروفة فى اوساط العارفين ولا يمكن و للأسف إنكارها – ان لا احد يدخله و يخرج منه معافى.
- و قد صح القول فينا انا و ناديا ، اليس كذلك ؟
ثم أكمل :
هى كان لها رأى أخر ، أن ابدأ انا وكلما انهى جزء اعطيها اياه فتقرأه من بعدى و هى مطمئنة اننى استكشف قبلها الشخصيات و المعانى ، انى مررت قبلها من هنا . ((اليس هنا دور الرجل؟)) سألتنى وكأن الجواب أيضاً لا جدال فيه.
بدأ يقرأ الكتاب من اوله . اكتشف قكرة ان يقرأ الأنسان كتاباً سيقرأه من بعد شخصاً يحبه . فصار كلما التقى شخصية غريبة او حالة من احوال الحب ابتسم فى سره لما ستقوله ناديا عنها . فكان يتساءل ما اذا كان وصف الكاتب لمرض الحب (( الغير قابل للجراحة )) الذى عانى منه ((سوان)) تجاه اوديت وكيف اختلط هذا الحب بجميع عاداته اليومية و افكاره و افعاله و صحته و نومه و حياته و مايتمناه بعد الموت ، تساءل اذا كانت ستفكر بحبهما و تستسلم له بقناعة اكبر لانه موصوف فى الكتاب أى انهما ليسا وحدهما فى حالة ((الجنون)) هذه. كما قال فى نفسه انها ستتذكر امها متى وصلت الى حديث البطل عن القبلة التى كانت تطبعها أمه كل ليلة على جبينه قبل رقاده ، قبلة ليس فيها بقية ولو بسيطة من رغبة فى غيره ، قبلة كاملة له وحده .....
اعطاها الجزء الاول ولما تقدمت فيه قليلاً سارعت فى الاتصال به و طلبت منه ان يضع علامة عند الصفحات التى يحبها او ان يكتب ما يشاء بين السطور ؟ ((لا اتحمل قراءة هذا الكتاب بمفردى)) قالت له ، فأعطنى أكبر قدر من الاشارات لكى اشعر دائماً بوجودك الى جانبى و انا تائهة فيه ... كنت اتمنى لو نجلس فى مقهى يروح الناس و يجيئون فيه امامنا ، فنفتح كتابا واحدا و نقرأ فيه معا و نقلب الصفحات معاً.....))
قصدت شاطىء البحر قرب ((كازينو لبنان)) فى يوم حر شديد لنتابع الجزء الرابع (( سادوم و عامور )) ، لكنها لم تصل . كان قد سبقها الى الجزء الخامس (( السجينة))
-فى اللحظة التى رن فيها الهاتف ليخبرونى انها ادخلت الى مستشفى باستور بعد ان صدمتها شاحنة رمتها مع سيارتها الصغيرة الى الجهة الثانية من الاوتوستراد وان حالتها خطرة وهم اتصلوا بى لانهم وجدوا رقم هاتفى فى اوراقها الخاصة ، اكتشفت ساعة فتحت مفكرتها في ما بعد انها لم ترتب الاسماء فيها بحسب التسلسل الأبجدى بل وفق قائمة كانت أمها فى رأسها و انا من بعدها مباشرة ، لم استطع التغلب على أمها ، ادارة المستشفى اتصلت بالرقم الأول فلم تجد احداً فاتصلوا بالشخص التالى فوقعوا على فى لحظة كنت غارقاً فيها بهذيان مرسيل حول ألبرتين ))
عندما وصل الى هذه النقطة من حكايتهما فتح رضا الكتاب الذى كان يمسك به و يلوح به طوال الجلسة .
كانت ردة فعلى الاولى ، بدل ان اقود سيارتى و اتوجه الى المستشفى ، انى استعدت قراءة المقطع الأخير من جديد : (( وأدركت الاستحالة التى يصطدم بها الحب . نتصور أن غرضه كائن قد يكون راقدا ازاءنا ، مسجونا فى جسمه . انه و للاسف توسع هذا الكائن الى جميع النقاط التى يحتلها فى المكان و الزمان . و طالما اننا لا نمتلك اتصاله مع هذا المكان وهذه الساعة فاننا لا نمتلكه . بيد اننا عاجزون من الوصول الى هذه النقاط جميعها . لو قدر لنا تحديدها لتمكنا من التوسع صوبها لكننا نتلمسها دون ان تقع عليها . من هنا يولد الشك و الغيرة و الشعور بالاضطهاد . نضيع وقتاً ثمينا فى دروب عبثية ونمر الى جانب الحقيقة دون ان ندرى بها)) ... ثم طويت الكتاب و دونّت فى هامشه الضيق : ((هنا ذهبت ناديا)) و أغلقته
مقطع من رواية عين ورده
- دار النهار
..........................................................................................................
يا إيليا
لكن قبل ذلك كله إخبرنى ألن تتزوج ؟ أولاد الحارة رأوك على الكمبيوتر و أنت برفقة فتاة شقراء جميلة . هل هذا صحيح ؟ أميريكية أم أبنة عرب . المهم ان تكون جميلة و مسيحية . يقال إنه لم يعد فى أمريكا مسيحيون؟ لماذا تضحك ؟ أنها مسيحية أكثر من الازم؟ كيف ذلك ؟ والدها كاهن؟ الكهنة عندهم يتزوجون أيضاً؟ ولماذا أسالك ان كانت مسيحية ، ما الفرق ، كلنا خلق الله . انا لا أحب الصلاة ولا أحب الكهنة ، لا اعترف عند واحد منهم ، اذا اردت الأعتراف أقول خطاياى لله و ساعة موتى أطلب كاهناً غريباً . على كل حال ماعدت ادخل الكنيسة الا عند الضرورة ، اصلى من هنا ، من بيتى
أريد فقط أن أعرف هل لصديقتك أَم تنتظرها هناك فى بلدتها الأميريكية كما أنتظرتك أنا هنا ؟ هل تستيقظ أمها ليلاً كالمجنونة ؟ هل تهرع مثلى حافية القدمين الى الباب لأن صوتاً من عز النوم ناداها أن تنهض . صوت قال لها أن ابنتها عادت من رحلتها الطويلة وهى تموت عطشاً و تجلس عند الباب تنتظر من يفتح لها الباب . هل تفتح أمها الباب كما أفتحه كل ليلة ويدها ترتجف قليلاً فلا تجد أحد فتجلس بدورها عند عتبة الباب تنظر فى عتمة الليل مكسورة الفؤاد تنصت الى ادنى حركة علها تكون مؤشراً على وصول ابنتها؟ هل تركض كل ليل حافية لتفتح الباب علّ الصوت يصدق ولو مرة واحدة و تضم ابنتها بين ذراعيها حتى يطلع عليهما ضوء النهار؟ هل لها ، صديقتك فى بلادها أم مثلى لم ترها مرة واحدة منذ عشرين عاماً بالتمام و الكمال ؟ و مع ذلك تبدأ يومها بتقبيل ثيابها و شمها و قد صارت ثيابك مضحكة ، يا إيليا ، و أحذيتك صغيرة . هل تحّضر لها الحلوى و الأجاص بعد ظهر السبت ، يوم عطلتها المدرسية عندما كانت فى الصفوف الأولى... هى لا تحب سوى حلوى الاجاص . تحّرها و تَبرزها فى وسط الصالة تتأملها و تنتظر ثم لا تلبث أن تقدمها فى اخر النهار لأحد الفقراء من أولاد الجيران لأنها لم تأت لتأكلها ؟ و تعيد تحضيرها كل سبت بعد الظهر . نعم بقيت لعشر سنوات أحضر لك كل يوم سبت حلوى الأجاص ، لانى صرت أخشى إن توقفت مرة واحدة عن صنع الحلوى أن يصيبك مكروه هناك ولا تتمكن من العودة الّى ابدا....
لا تخاف عّلى يا ايليا ، لن ابكى ، توقفت من زمان طويل عن البكاء . لكن أعطنى يدك يا ابنى ، اعطنى يدك كى أتشجع على الكلام . لن أبكى ، ولماذا ابكى على غيابك و انا الذي دللتك على طريق السفر ؟ تلك هى حكاية أمك كاملة الحقيقية : ان وحيدها الذى صنعته بيديها ، نعم انا صنعتك بيدىّ ، أفترقت عنه بمحض أرادتها . الا تذكر انى قلت لك ذات يوم :
- طفح الكيل يا ابنى ، هذه بلاد خراب ، احزم حقيبتك و أمش ، لن تبقى هنا يوماً واحدا زائداا !
طلبت منك السفر بعد أن شحذتك من ثلاثين قديساً . لم أترك زاوية فى لبنان الا زرتها ، من كنيسة العذراء فى القبيات الى دير مسيحى مهجور فى أقصى الجنوب قرب الحدود الإسرائيلية . فكوا لي الكتيبة خوفاً من أن يكون دعا علىّ أحد بحرماني من الأولاد ، و علّمونى جميع الوصفات . (( أكثرى من الملح فى الأكل يا كاملة )) كانوا ينصحوننى (( نامى مع زوجك خمسة أيام على التوالى )) ، (( ابقى مستلقية طويلاً على ظهرك و ارفعى رجليك عالياً )) عّلمونى العّد على الأصابع و الروزنامة القمرية ...
نزلت حافية إلى مار أنطونيوس قزحياً ، طريق طويل و صعب بين الأشواك . وصلت والدم سارح من رجلى و فى يدى ليرتان ذهب ، وضعتهما له على المذبح وقلت له
- اعطنى صبياً و ستكون مسروراً منى ، لن أبخل عليك
اضحك علّى يا ايليا ، أنت لا تؤمن بهذه الخرافات . و من قال لك انى أومن بها لكنى لو لم أفعل لكنت لظللت اعتقد انى لم أكمل واجبى. نمت بطولى امام مذبح مار انطونيوس قزحياً ، داخل كنيسته المحفورة فى الصخر . أمضيت الليل كله عنده ، حتى طلوع الفجر . كدت أموت برداً و من يومها صارت أمعائى تؤلمنى عند أول لفحة برد.
ركعتّ الف مرة امام صورة السيدة العذراء فى الحارة التحتا و طالبتها بك . نعم، الكنيسة العتيقة نفسها ، ذهبتّ الى زيارتها من جديد ، اليس كذلك؟ كنت أعرف أنك ستذهب لتنظر إلى الصورة ، الى الملائكة الصغار المحيطين بالعذراء . كنت أدخل اليها ليلاً ، فى ساعة متأخرة عندما لا يعود بداخلها أحد و أقفل الباب الخارجى كى اكون وحدى فى الكنيسة لاتمكن من رفع صوتى . ابكى و اقول لها لماذا أنت أنانية هكذا ؟ وهل انت بحاجة لكل هولاء الملائكة الصغار حولك ، و لماذا لا تكرمين علّى بواحد منهم ؟ و كنت أشير باصبعى إلى الملاك الصغير المحلق بجناحيه فوق كتفها اليمنى . هذا ما كنت أحبه أكثر من الباقين . كانت أحياناً تبتسم لى ، عرفت انها لن تتركنى.
مقطع من رواية مطر حزيران (( القائمة القصيرة لـ«جائزة بوكر» العربية 2008
- دار النهار
- دار النهار
..........................................................................................................
يا إيليا
لكن قبل ذلك كله إخبرنى ألن تتزوج ؟ أولاد الحارة رأوك على الكمبيوتر و أنت برفقة فتاة شقراء جميلة . هل هذا صحيح ؟ أميريكية أم أبنة عرب . المهم ان تكون جميلة و مسيحية . يقال إنه لم يعد فى أمريكا مسيحيون؟ لماذا تضحك ؟ أنها مسيحية أكثر من الازم؟ كيف ذلك ؟ والدها كاهن؟ الكهنة عندهم يتزوجون أيضاً؟ ولماذا أسالك ان كانت مسيحية ، ما الفرق ، كلنا خلق الله . انا لا أحب الصلاة ولا أحب الكهنة ، لا اعترف عند واحد منهم ، اذا اردت الأعتراف أقول خطاياى لله و ساعة موتى أطلب كاهناً غريباً . على كل حال ماعدت ادخل الكنيسة الا عند الضرورة ، اصلى من هنا ، من بيتى
أريد فقط أن أعرف هل لصديقتك أَم تنتظرها هناك فى بلدتها الأميريكية كما أنتظرتك أنا هنا ؟ هل تستيقظ أمها ليلاً كالمجنونة ؟ هل تهرع مثلى حافية القدمين الى الباب لأن صوتاً من عز النوم ناداها أن تنهض . صوت قال لها أن ابنتها عادت من رحلتها الطويلة وهى تموت عطشاً و تجلس عند الباب تنتظر من يفتح لها الباب . هل تفتح أمها الباب كما أفتحه كل ليلة ويدها ترتجف قليلاً فلا تجد أحد فتجلس بدورها عند عتبة الباب تنظر فى عتمة الليل مكسورة الفؤاد تنصت الى ادنى حركة علها تكون مؤشراً على وصول ابنتها؟ هل تركض كل ليل حافية لتفتح الباب علّ الصوت يصدق ولو مرة واحدة و تضم ابنتها بين ذراعيها حتى يطلع عليهما ضوء النهار؟ هل لها ، صديقتك فى بلادها أم مثلى لم ترها مرة واحدة منذ عشرين عاماً بالتمام و الكمال ؟ و مع ذلك تبدأ يومها بتقبيل ثيابها و شمها و قد صارت ثيابك مضحكة ، يا إيليا ، و أحذيتك صغيرة . هل تحّضر لها الحلوى و الأجاص بعد ظهر السبت ، يوم عطلتها المدرسية عندما كانت فى الصفوف الأولى... هى لا تحب سوى حلوى الاجاص . تحّرها و تَبرزها فى وسط الصالة تتأملها و تنتظر ثم لا تلبث أن تقدمها فى اخر النهار لأحد الفقراء من أولاد الجيران لأنها لم تأت لتأكلها ؟ و تعيد تحضيرها كل سبت بعد الظهر . نعم بقيت لعشر سنوات أحضر لك كل يوم سبت حلوى الأجاص ، لانى صرت أخشى إن توقفت مرة واحدة عن صنع الحلوى أن يصيبك مكروه هناك ولا تتمكن من العودة الّى ابدا....
لا تخاف عّلى يا ايليا ، لن ابكى ، توقفت من زمان طويل عن البكاء . لكن أعطنى يدك يا ابنى ، اعطنى يدك كى أتشجع على الكلام . لن أبكى ، ولماذا ابكى على غيابك و انا الذي دللتك على طريق السفر ؟ تلك هى حكاية أمك كاملة الحقيقية : ان وحيدها الذى صنعته بيديها ، نعم انا صنعتك بيدىّ ، أفترقت عنه بمحض أرادتها . الا تذكر انى قلت لك ذات يوم :
- طفح الكيل يا ابنى ، هذه بلاد خراب ، احزم حقيبتك و أمش ، لن تبقى هنا يوماً واحدا زائداا !
طلبت منك السفر بعد أن شحذتك من ثلاثين قديساً . لم أترك زاوية فى لبنان الا زرتها ، من كنيسة العذراء فى القبيات الى دير مسيحى مهجور فى أقصى الجنوب قرب الحدود الإسرائيلية . فكوا لي الكتيبة خوفاً من أن يكون دعا علىّ أحد بحرماني من الأولاد ، و علّمونى جميع الوصفات . (( أكثرى من الملح فى الأكل يا كاملة )) كانوا ينصحوننى (( نامى مع زوجك خمسة أيام على التوالى )) ، (( ابقى مستلقية طويلاً على ظهرك و ارفعى رجليك عالياً )) عّلمونى العّد على الأصابع و الروزنامة القمرية ...
نزلت حافية إلى مار أنطونيوس قزحياً ، طريق طويل و صعب بين الأشواك . وصلت والدم سارح من رجلى و فى يدى ليرتان ذهب ، وضعتهما له على المذبح وقلت له
- اعطنى صبياً و ستكون مسروراً منى ، لن أبخل عليك
اضحك علّى يا ايليا ، أنت لا تؤمن بهذه الخرافات . و من قال لك انى أومن بها لكنى لو لم أفعل لكنت لظللت اعتقد انى لم أكمل واجبى. نمت بطولى امام مذبح مار انطونيوس قزحياً ، داخل كنيسته المحفورة فى الصخر . أمضيت الليل كله عنده ، حتى طلوع الفجر . كدت أموت برداً و من يومها صارت أمعائى تؤلمنى عند أول لفحة برد.
ركعتّ الف مرة امام صورة السيدة العذراء فى الحارة التحتا و طالبتها بك . نعم، الكنيسة العتيقة نفسها ، ذهبتّ الى زيارتها من جديد ، اليس كذلك؟ كنت أعرف أنك ستذهب لتنظر إلى الصورة ، الى الملائكة الصغار المحيطين بالعذراء . كنت أدخل اليها ليلاً ، فى ساعة متأخرة عندما لا يعود بداخلها أحد و أقفل الباب الخارجى كى اكون وحدى فى الكنيسة لاتمكن من رفع صوتى . ابكى و اقول لها لماذا أنت أنانية هكذا ؟ وهل انت بحاجة لكل هولاء الملائكة الصغار حولك ، و لماذا لا تكرمين علّى بواحد منهم ؟ و كنت أشير باصبعى إلى الملاك الصغير المحلق بجناحيه فوق كتفها اليمنى . هذا ما كنت أحبه أكثر من الباقين . كانت أحياناً تبتسم لى ، عرفت انها لن تتركنى.
- دار النهار
التسميات: إختلاس
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home