الخميس، ديسمبر 22، 2005

عن الأُسطى سعيد

أعتقد أن البعض منكم ممن إعتاد على السفر بين القاهرة و الأسكندرية يعرفوننى شكلاً على الأقل
فأنا واحد من أقدم سائقى السوبرجيت
أدعى الأسطى سعيد
لحظة تسجيلى لهذه السطور أكون قد أمضيت أكثر من 24 عاماً من القيادة على مختلف الطرق مابين القاهرة و الأسكندرية
حتى إستقريت على الأوتوبيس رقم 81 إن طالبتونى بالدقة
طوال سنوات خدمتى قابلت نوعين فقط من المشاعر نظراً لوجود عدد من المسافرين الذين أقوم بتوصيلهم حتى المطار أو العائدون من الخارج
مشاعر الفراق والوداع
ومشاعر العودة واللقاء
لا أعلم حتى الأن كيف يتحمل الإنسان أن يترك أهله ووطنه و يسافر
أعتقد أن هؤلاء البشر لا يملكون أدنى مشاعر الأنسانية
فى البدء كنت أبكى مع المودعين
مع الأم و الأب فى وداعهم لأبنهم
مع الزوجة وهى تودع زوجها بينما يتعلق أطفالهم ببنطلونه طالبين منه البقاء
فتاة يسافر حبيبها للخارج تحاول جاهدة التحكم فى نزيف الدموع
مع مرور الوقت تعودت
صارت العملية سخيفة ومملة ومكررة
إنقلبت الى النقيض
صرت أكره هولاء البشر الذين يتركون كل هذا الحب من أجل المال
لعن الله المال
أعلم ما ستقولون
أن هذا الشخص يضحى بكل شىء فقط من أجل سعادة هولاء المودعين
وأنا أقول لكم
لماذا لايبقى هذا الشخص وسط كل هذا الحب ويعيش مع أسرته فى مستوى أقل من المستوى الذين يبغونه
فى مقابل هذا ستكون حياتهم أكثر سعادة بوجود وسط هذا الحب
تلك الفكرة على غير موضوعيتها بالنسبة لكم ولكنى مقتنع بها تمام الإقتناع
لدرجة أنى أشعر أحيانا أن كل البشر مقتنعين بها
ولكن بعض البشر من الذين لا يمتلكون المشاعر الكافية للعطاء يحاولون تعويضها عن طريق المال
لماذا لاينظر هذا الشخص إلى نفسه فى الغربة وكيف يفنى حياته فى سبيل بشر يسمع صوتهم مرة كل شهر
ويراهم أسبوعين كل سنة
أتخيل دائما هذا الحوار بين الأب الذى سافر وترك زوجته وطفلهم
الزوجة:شفت يا شريف حمادة إبتدى يتكلم ويقول بابا
الزوج بفرح:بجد
الزوجة تحاول وضع سماعة التليفون على فم حمادة وتستحثه يلا يا حمادة قول بابا
حمادة:ماما
بعد سنوات
الزوجة:شفت يا شريف حمادة طلع الأول على المدرسة السنه دى,حمادة عايز يقولك حاجة
الزوج:إزيك يا حمادة يا حبيبى مبروك
حمادة:بابا ماتنساش تجيبلى البلاى أستيشن اللى وعدتنى بيه مع السلامة بقى يا بابا عشان رايح لرامى صاحبى
بعد سنوات
الزوجة:بقولك أيه يا شريف زود الفلوس اللى بتبعتها شوية إنت عارف حمادة مصاريفه كترت بعد ما دخل الكلية ,أيه عايز تكلم حمادة
حمادة الذى يتفرج على التلفزيون بتركيز شديد بجوارها يشير لها إنه غير موجود
الزوجة:حمادة والله بيذاكر عند أصحابه, أكيد لوِ جِه وعرف إنك إتصلت وماكلمكش حيزعل أوى دى تالت مرة ورا بعض تتصل ومايكونش موجود ,خلى بالك من نفسك يا حبيبى
صدقونى أنا واثق من أن هذا السيناريو قد حدث وسيحدث مراراً وتكراراً
لهذا لم أرتبط بأى شخص فى حياتى سوى بأبى وأمى
الذين توفيا منذ أعوام قليلة
غير هذا
لاتربطنى أى علاقة بالجيران
حتى زملاء العمل لا تربطنى سوى الزمالة
الجميع أدركو إنى إميل للأنطواء فابتعدوا عنى
أتعلمون منذ شهر مات الأسطى على
صراحةً كان رجل محبوب من الكل
الجميع بكاه ماعدا انا
لم تكن لى علاقة قوية به
مجرد سلام ودمتم
حتى إنه لم يدعنى الى فرح ابنته
السائقون أضربوا عن العمل يوم وفاته حزنا عليه
قاموا بجمع تبرعات لأسرته بالطبع شاركت فيها ,أنا لست خسيس إلى هذا الحد
فى هذا اليوم أوتوبيس 81 قام بجميع رحلاته
لم يتأخر دقيقة واحدة عن ميعاده
نظرات اللوم والعتاب فى أعين السائقين لم تعن لى شيئاً
لقد بدأت اللعبة ويجب أن أكملها
الحياة أجمل بكثير من دون أن تحب أو يحبك أحد
صدقونى لن تحزن لحظة واحدة
مع الوقت صار تعاملى مع لأى شخص على إنه مادة فى طريقه للعدم
صرت أكثر تسامحاً مع البشر مع وضع الحدود التى تجعلنى شخص لن يحزنوا عليه إذا مات
هكذا أفضل
حكى لى أحد الراكبين عن أن زوجته التى كانت ملقية على الأرض من البكاء لحظة طلوع السوبرجيت
لا تكن له أى مشاعر حب تجاهه
هوا فقط بالنسبة لها رفيق دنبا
ضل راجل ولا ضل حيطة
وسيلة لإنتشالها من الوسط المتدنى إلى وسط أعلى
حكى لى أنهم يعيشون فى مستوى مادى يتمناه الكثيرون
ولكن زوجته نفسها تهفو إلى فيلا فى الساحل الشمالى فهى لا تقل شىء عن زوجة صلاح
صديقه
الى هذا هذا الحد قد غاص البشر فى الوحل
فى فترات طفولتى كنت أهوى الأفلام التراجيدية
كانت أتلذذ بتلك الدوع التى تسقط منى
عندما يموت البطل أو البطلة فى أحضان الأخر
عندما يعود البطل إلى حبيبته فى نهاية الفيلم
عندما يعود البطل إلى حبيبته أو طفله بدلاً من أن يركب الطائرة ويرحل بعيداً
24 سنة قضيتها فى نقل المسافرين لم أرى مرة مسافر يضحى بثمن التذكرة من أجل دموع أهله
الأن فقط تيقنت من أن السينما حرام
ليس لأحتوائها على مناظر البوس و الأحضان
ولكن لأنها تضحك على البشر وتقنعهم بأشياء لا وجود بها فى الحقيقة
كالوفاء والأمانة والتضحية و...................
صراحةً
أحياناً أذهب الى السينما
أعشق أفلام الصخرة
أصدق كل أفلامه فعمره ما قام بإسداء نصيحة أو موعظة
"بيخش يطيح فى البشر وخلاص .....
بمرور الوقت وإزدباد خبرتى الحياتية تيقنت من أن مشاعر اللقاء والعودة تكون أضعف بكثير عن مشاعر الفراق
الشخص العائد يكون قد إزداد صلابة عنه قبل السفر
لايوجد لديه ما يخسره فقد خسر كل شىء بالفعل
بالنسبة لأهله فهم قد تعودو على فراقه
وجوده بينهم لن يطول كثيراً
شهر على الأكثر وسيسافر ثانيةً
فلما الإسراف فى المشاعر
عذراً على طول قصتى ولكنى أكتب قصتى تحت تأثير الموقف الذى تعرضت له من يومين
فلقد رأيت أحد المسافرين وهو يضع حقائبه فى شنطة السوبرجيت
الغريب والجديد فى الأمر
إنه كان وحده
لا يوجد أحد معه
بجراءة شديدة توجهت له وسألته أيه: مفيش حد معاك يودعك ولا ايه
إلتفت إلى وقال فى هدوء وقال لى لأ أنا اللى فاضل هنا كلهم سافرو
أنا فى خفوت:ياه كلكم إتفرتقوا
الشاب:لأ ماما وبابا سافروا من شهر الأمارات عند أخواتى وأنا حاحصلهم دلوقتى
أنا:إنتم من الإمارات أساساً
هو:لأ من مصر بس أنا لسة مخلص الكلية ومسافر أشتغل هناك
أنا:بغصة فى صوتى :ووالدك ووالدتك
هو يبتسم: كلنا هنعيش هناك أنا وأخواتى التلاتة وأجوازهم وأصحابهم اللى مسافرين هناك من زمان
تقدر تقول إحنا عاملين عيلة مصرية صغيرة هناك,إحنا منقدرش نعيش من غير بعض
متربيين على كده
يضحك ويكمل كلامه: وكلها كام سنة أتجوز أنا كمان وأفتح فرع جديد للعيلة
لماذا سكت
كنت فى طريقى لأن أطلعه على كل أفكارى
وعلى كل مخاوفى
ولكنى سكت
شىء ما فى عينيه انبئنى أنهم مختلفين عن باقى البشر
أعتقد أن الحب الموجود فى قلوبهم والذى دفعهم إلى مثل هذه الفكرة
أقوى من الحزن الذى قد يأتى نتيجة لوفاة أحدهم أو حدوث أى مكروه
المرة الأولى التى أجد فيها ثغرة فى أفكارى
أتركه وأذهب
أعتذر للمرة الأولى فى حياتى عن رحلتى
وأتوجه من فورى لمنزلى
أبدا فى تذكر الأيام المنقضية من عمرى
أفكر فى تلك العائلة التى إنتصرت على قوانين الحياة
ابدأ فى التفتيش بداخلى عن ذكريات
لا أجد
أكتشف أنى على مشارف الخمسين
ومدى صعوبة البدء إلى نقطة البداية
فأقرر مواصلة اللعبة كأن شىءً لم يكن
الأُسطى سعيد

الأحد، ديسمبر 18، 2005

آخر الوصايا

الغلاف للفنان مجدى نجيب
1
أوصيكم
لو شوفتوا الفرح مرَّه
حاولوا ترسموه
لو جاي مستورد .. ومتبغدد
استحملوه
لو جاي بيرفرف على ضهر الوطن الحزين
استغفروه
لو جاي من قلب طيّب
استقبلوه
الفرح للناس كلها وبيسرقه مواطن حويط
آه .. لو تفهموا
قبل ما تسقفوا
أو تموتوا من شدة فرحكم الغشيم العبيط

2
لو شوفتوا الفرح صاحب
مش عايز يصاحب وطن غلبان
عشان كاره حبة بشر .. مستثمرين وباعوه
وبيعيّطوا على ورق الجرايد بالدموع
أنصحكوا ننسى وجع الوطن
ودمعه الحزين وقلبه اللي بات موجوع
وكمان
لا بد تنسى كل ما ليه علاقه بالرواقه
ما احنا لغاية ما نوصل للنزاهه
بننسى الكتير كتير .. وبالأخص دا الموضوع

3
أوصيكم
لو شفتوا الحزن حاله .. محاله
إنسوا نفسكم في كل حاله
واشتروا همّ بكره عليكم ده كفايه
الزمن ده .. فيه كتير نقص في حكمة الرجّاله

4
لو مرَّه .. قريت جريده
أخبارها ضحكت عليك
إرميها في الزباله
بناقص شوية البراميل
وشوية الرجّاله

5
لو مرَّه .. خبر مبني للمجهول
عن الفلاح طيّب الذكرى ومرَّه ..
فرحان بيغني على الأرغول
يعني سعيد وعمره مديد والوطن جوّاه
منعنش ومتضفّر في الوريد .. وإسوِرَه في الإيد
إنسى الخبر على طول
وما تصدقشي
انتهى من القواميس
كل إنسان حسيس
وابتدا مشوار خسيس
واتملت بيوتنا في يوم العيد
بلوعة ودمعة التناهيد

6
أوصيكم يا صحابي
في زمن
ماحدّش ح يقدر يحمي بابي
ولا ح يعرف إيه اللي صابني
ولا مين اللي دبحني
ولا مين اللي باعني
ولا مين اللي دفعني كل ليله
أمصمص عضم حلمي
أوصيكم بس ننسى
زمن الحلم انتهى من عمرنا من بدري

7
لو شفت الفرح ساعي في المساعي
وراعي وطن خربان
وبيدافع بالأغاني في المسامع ولا حدّ سامع
في خطب الجوامع
ولا في حزن المواجع
تقدر تقول ملوْ بُقك
ده وطن مغشوش
وانصحك تنساه
ولا تعرفوش

8
ده زمن مرسوم على وش الخريطه
كان البشر متغندرين .. أو مقهورين
أو كانوا .. بحكم الوجع عاشقين
أو .. كانوا بحكم الطوارئ ع القانون خارجين
كلهم بلا استثناء
عاملين لنا ظيطه
آل يعني هما اللي نجيوا من سفينة قهرنا
وهما منتصرين
إنسوا لعبة الساده
اللي كل يوم بنقرا أهم أخبارهم
لصوص .. كما أيام زمان على الصدور راقدين
بس في ملابس زمانّا
متغيّرين
في الصور .. آخر هندمه
والرصيد من دمنا يا أمنا طلع السما
ده .. كلنا
احنا ع الخريطه حبة بشر متنيّلين .. متنوّمين .. راضيين
آخر الوصايا من ديوان "الوصايا" للمبدع مجدى نجيب

Free Web Site Counters